top of page

فراشة الربيع


نزل من حافلة النقل الحضري، فنفض سترته وتحقق من سلامة أطرافها، ليتمم مسيره نحو "الغار"، كما يحب أن يسميه أثناء تمازحه وأصحابه. بعد دقائق من السير وجد نفسه في السوق دون سابق نيّة، فقد غيّر الباعة أماكنهم مرة أخرى خوفا من إحدى الحملات التي طالت سوقهم الغير النظامي. أخذ ينساب بين العربات، ويراوغ المارّة، فتارة شيخا يسير وسط الطريق حاملا قفّته، وتارة أخرى صبيّا ممسكا أمه بيسراه وتاركا يمناه الملطّخة بالطّين ليربّت بها على كل محظوظ يمرّ بجانبه... يدفع هذا بذراعه، ويحتمي من ذاك بمحفظته الباهت لونها، المهم أن تصل السترة في أمان الله، فقد ضاق ذرعا بتوبيخ ابن عمه له كلما أعاره شيئا من ثيابه، ولولا كِبر مناسبة اليوم وأهميتها لما سمحت له عزة نفسه أن يطلب منه السترة مرة أخرى. بعد هنيّة لمح بائع الإجاص، فتحسّس جيبه ليتحقق من وجود تلك الدريهمات التي بقيت من ثمن تذكرة الحافلة. إنه آخر أسبوع له بالمدينة، ولا ضيْر من أن يستمتع بكل ما اشتهت نفسه منذ أشهر، خاصة وأنه وفّر من آخر منحة دراسية أكثر من النصف، فلا مزيد من مصاريف الكراء، ولا مصاريف النقل، ولا حتى مصاريف الأكل، فقط أياما معدودة تفصله عن العودة الى الدوّار.

وقف عند الفاكهانيّ، وبعد المساومة المعتادة على الثمن، اختار بضع حبات من الإجاص بعناية كاملة، وهو يتحسّس جيبه من حين لآخر؛ أدّى الثمن ثم تابع طريقه بخطوات واسعة، متأبطّا محفظته التي صار لونها الأسود مائلا للأزرق بسبب كثرة التّصبين. بعد اجتياز زنقتين، أو ثلاث، وصل صاحبنا "للغار"، ففتح الباب ثم دخل مسرعا خِيفة من أن يلْحظه "بّا مْحمّد" صاحب الدّكان.

خلع حذاءه، ووضع محفظته وكيس الإجاص جانبا، ثم علّق السّترة بلطف على مقبض الباب ليرتمي على فراشه ويبدأ بترتيب أفكاره وتحليل مقابلة التخرج التي أجراها اليوم: "هذا السؤال كان بسيطا جدا لأجلس مذهولا أمام اللجنة، والسؤال الثاني... أعتقد أن إجابتي عليه لم تكن مقنعة بالنسبة لهم، أما السؤال الأخير فقد كنت مستعدّا تماما له، لولا أن تلك الأستاذة قاطعت تدخّلي..." ثم قفز من فراشه واتجه نحو محفظته، وأخرج قلما وورقة وبدأ بالحساب والتخطيط، ليختتم بعد دقائق قليلة تسويده، بأن أمسك ذقنه وقال: "إذن لأحصل على الاجازة بميزة، لا بدّ أن أحرز المعدّل في مقابلة اليوم!". ثم أخذ إجّاصة من الكيس ليكسر بها جوعه، قضمة تتبع قضمة، إلى أن غلبه النّعاس.

بعد نوم عميق استيقظ وقرب آذان المغرب، فتوضّأ وصلى صلاة العصر التي كان قد نام عنها، ثم اتجه صوب المسجد المجاور، حيث التقى بعدد لا بأس به من الأصدقاء، منهم من يوازيه سنّا، ومنهم من يصغره عمرا؛ ففي مثل هذا الوقت من كل سنة، ومع اقتراب موعد الامتحانات الإشهادية، يحرصون على الصلاة في المسجد للتضرع وسؤال التوفيق من الله عز وجل. بعد الصلاة عاد الى المنزل، وما كان عليه في طريقه إلا أن يمر هذه المرة، مرغما، على دكان "بّا مْحمد"، فليس هناك من يجاريه في تحضير شطائر البيض والسلامي.

- السلام عليكم، من فضلك شطيرة بيض وسلامي كالعادة، ولا تكثر الصلصة الحارّة!

رفع "بّا مْحمد" نظره ببرودة، ودون أن يردّ السلام، استقام بهدوء ومسح يديه بوزرته البيضاء المتسخة، ثم باشر اعداد الشطيرة. وبينما هو يقلّب البيض فوق المقلاة، تكلّم بصوت كالهمس، لكنه واضح النبرات:

- لقد كنت توّا أتحقق من دفتر الديون، ووجدت أنه ما زال بذمتك سبعة وأربعون درهما.

فأخرج بطلنا "عبد الرحيم" من جيبه خمسون درهما، ورماها جانبا بطريقة تظهر للعيان، وعيناه تلمعان ببريق الثقة والاعتزاز. تبسّم "بّا مْحمد" وتغيرت ملامحه، وبدأ العمل في تحضير الوجبة بسرعة أكبر:

- هل ستأكلها هنا يا بنيّ؟ هل أسجل ثمنها في الدفتر؟

- سآخذها معي الى البيت...

ثم أخرج "عبد الرحيم" أربعة دراهم، ووضعها فوق ورقة الخمسون درهما. أضاف "بّا مْحمد" رشة من زيت الزيتون على الشطيرة، ولفّها بورقة ثم وضعها بكيس بلاستيكي على غير عادته، وقدمها لصاحبنا الذي أخذها وانطلق الى منزله.

في صباح اليوم التالي استيقظ "عبد الرحيم" باكرا وحضّر نفسه للذهاب الى الكلية من اجل اتمام آخر اجراءاته الادارية قبل العودة الى الدوار.

خرج من "الغار" ولكن هذه المرة دون الزي الرسمي الأنيق، واتجه نحو موقف الحافلة متفائلا. بعد ساعة إلا ربع، كان قد حجز مكانا له بطابور وراقة الكلية لنسخ واعداد بعض الوثائق الادارية والشخصية. الصف يكاد لا يتحرك، فالآنسة المشتغلة بالمكتبة تعمل ببطء شديد، وعينيها الجاحظتين تعكسان مدى سخطها على الوضع، كأنها ملّت عملها وملّت معه زبنائها المعتادين. بعد مدة ليست بالقصيرة تفاجئ "عبد الرحيم" بأحد الأصحاب خارجا من المكتبة بعد أن منّ الله عليه بنسخ ما تيسّر من الأوراق. استوقفه "عبد الرحيم" وهو يتأمل بفضول حجم الملف الكبير الذي يحمله:

- السلام عليكم، ما بال هذا الملف الضخم؟ أما زال هناك بعض المحاضرات التي لم تنته بعد؟

- إنني أحضر ملفي لأترشح لاجتياز مباراة الوظيفة، وقد حصلت للتو على كشوفات النقط وجئت لنسخها وباقي الوثائق المطلوبة.

- الوظيفة؟! أية وظيفة؟!

- لقد تم الاعلان عن مباراة التعليم، وآخر أجل لوضع الترشيحات بعد أسبوع من الآن!

- يا إلهي! لم يخبرني أحد بالأمر!

- الكل يعلم بالخبر، فقد تم نشره على الانترنت!

جلس "عبد الرحيم" القرفصاء، وبدأ يتحسر على حاله، فلو كان يملك حاسوبا لتمكن من تصفح الانترنت على الدوام، والاطلاع على آخر الاخبار والمستجدات. وكيف له أن يجمع الوثائق المطلوبة والتي يلزمها وقت وذهاب وإياب وبعضا من الحظ، وهو على وشك ترك منزله المُكترى بعد أيام؟!

قضى "عبد الرحيم" أربعة أيام ماراثونية، بين الكلية والمكتبة وزيارة بعض الأصدقاء من أجل الاستشارة والتوجيه، أربعة أيام من الانتظار في الحر، دون إفطار ولا غذاء، أربعة أيام من ترجي الإداريين والأعوان من أجل تسريع عملية استخراج كشوفات النقط وبعض الوثائق الاخرى قبل انصرام الأجل المحدد. وكان لا بد له قبل مَتمّ نهار اليوم الرابع أن يزور "الحاجّة" صاحبة المنزل، من أجل طلب تمديد فترة الكراء الى غاية آخر الأسبوع.

- السلام عليكم أَلحاجّة، كيف حالك وحال الصحة والأبناء؟

أجابت "الحاجة" وهي تُطأطِأ رأسها، بصوت هادئ يتخلّله أنين:

- الحمد لله يا بني على كل حال، ذهبت الصحة وذهب معها الأبناء، كلّ مشغول بحياته الآن. هل انتهيت من جمع أغراضك يا بني؟

- لهذا السبب جئتك ألحاجّة... لطلب تمديد مدة المُكوث في بيتك حتى نهاية الأسبوع...

اشرأب عنق "الحاجة" وأقرنت حاجبيها وأجابته بنبرة صوت صارمة:

- ... هو يوم واحد يا ولدي، فأنا بصدد التحضير لعرس ابنتي، وسأحتاج المنزل هذه الأيام. ثم دخلت تاركة جزءا من الباب مفتوحا.

بعد زوال يوم الغد، كان "عبد الرحيم" قد سارع الى جمع ما بقي من وثائق ولم يتبقَّ له سوى ملأ استمارة التسجيل عبر الانترنت، ولهذا الغرض اتجه لصديقه "رشيد" الذي يعمل بمقهى للأنترنت، والذي ينقذه في مثل هذه المواقف. بعد تعبئة استبيان التسجيل، شكر "عبد الرحيم" صاحبه وأعطاه رقم هاتفه من أجل إخباره بالنتائج فور الإعلان عنها.

في عشية نفس اليوم، رتّبَ بطلنا أغراضه، وارتدى سترة ابن عمه، وتوجه الى مركز التربية والتكوين ليضع وثائق ترشيحه، ثم استقلّ آخر سيارة أجرة متوجّهة للدوّار.

في كل مرة يعتاد فيها "عبد الرحيم" على صخب وأجواء المدينة، يجد نفسه غير قادر على التأقلم من جديد مع أوضاع الدوّار وما يستلزمه من أعمال يومية شاقة أهمها الرعي والسقي، فلم يعد يرضى أن يلْحَظه الناس يرعى الغنم، وهو الذي حصل على اجازته بميزة، وصار بيده مفتاح يُمَكِّنه من ولوج وظيفة محترمة.

بعد ثلاثة أسابيع في الدوار، وبينما "عبد الرحيم" مُتّكأ على جذع شجرة يهش غنمه، رنّ هاتفه الذي لم يعد يفارقه منذ عودته من المدينة. أجاب بسرعة ولهفة... إنه "رشيد" اتصل ليخبره أنه قد تم ادراج اسمه في لائحة المقبولين لاجتياز المباراة التي ستنظم بمدينة مراكش آخر هذا الشهر. وسط إحساسَيْ الغبطة والسعادة، الذي أحس بهما "عبد الرحيم" ظهر قلق وحسرة حدّا من فرحته... فالسفر الى مراكش يلزمه مال للتنقل، والمأكل، والمبيت... ومتى سيتسنى له التحضير للمباراة؟ ثم تذكر لوهلة "الحاجّة" التي أبت أن تطيل من مدة اكترائه للغار، فلولا عنادها لتمكن من جمع وثائق ومعلومات أكثر تفيده للتحضير لهذا اليوم الموعود. عاد "عبد الرحيم" لمجلسه بعد أن كان قد وقف مسرعا للإجابة على مكالمة رشيد، ثم مدّ رجليه وبدأ يداعب الحصى بعصاه.

بعد صلاة العصر، احتسى بطلنا كأسا من الشاي بالنعناع وليس في باله شيء سوى التفكير في مراكش، حتى أنه لم يعِر اهتماما لما جادت به أنامل أمه من رغيف و"مسمن" وحلويات. بعد لحظات تذكر أحد أعمامه الذين لم يرهم منذ وفاة والده، والذي يقال انه يعمل بالمدينة الحمراء. هرع "عبد الرحيم" مسرعا عند أمه يسألها:

- أمي ! هل عمي "البشير" لا زال يقطن بمدينة مراكش؟

أجابته أمه، وهي ترفع راحة يُمناها، كأنها تتبرأ مما قد ينتج عن اجابتها:

- هذا ما قالته عمتك الزهراء...

- وهل تعرفين أين يوجد مسكنه؟

- كل ما أعرفه أنه يعمل "حلايقيا" بساحة جامع الفنا.

ها قد ضمن "عبد الرحيم" مكانا للمبيت أثناء اجتيازه للمباراة التي ستمتد ليومين متتاليين، أو ربما هذا ما حاول أن يقنع نفسه به ليتمكن من التركيز أكثر على الاستعداد للامتحان.

مرّت الايام وشارف الأسبوع الأول على الانتهاء، وفي كل يوم كان يمر "عبد الرحيم" وغنمه على مدرسة الدوار، طمعا في وجود شخص فيها يطلب منه المساعدة والتوجيه؛ فموعد توقيع محاضر الخروج قد اقترب ولا بد من أن يجتمع الاساتذة هناك.

كل يوم عند "عبد الرحيم" كان يبدأ بأمل وينتهي بأسف وحسرة؛ الى أن جاء ذاك اليوم الذي لمح فيه سيارتين مركونتين جانب باب المدرسة الذي كان مفتوحا. انتظر أمام المدرسة نصف ساعة، ثم ساعة، فساعتين... وكله شغف وتوتر. الى أن خرج الأساتذة وركبوا في السيارتين بسرعة، إلا واحدا كان متأخرا قليلا عن الموكب. اتجه "عبد الرحيم" نحوه مسرعا فبادره بالسلام قبل أن يرتمي هو الآخر داخل احدى السيارتين:

- السلام عليكم يا أستاذ، لقد تم قبولي لاجتياز مباراة التعليم وأحتاج بعض الوثائق التي قد تساعدني للتحضير للمباراة.

تبسّم الأستاذ ووقف لثوان ينظر الى الأسفل وهو يداعب ناصية شعره، ثم طلب من زملائه الانتظار وعاد الى المدرسة. بعد مدة قصيرة خرج الأستاذ محمّلا بثلاث كتب ومطبوع غليظ، جُلّها بالٍ، لكنها منظمة وأنيقة... مدها لعبد الرحيم وتمنى له التوفيق، فشكره هذا الأخير وأظهر له كل الامتنان؛ فلم يضع انتظاره سُدا، وبات الآن على المسار الصحيح لمواصلة السعي وراء هدفه.

المشهد الذي عاينه "عبد الرحيم"، وكيف كان الأساتذة مندمجين فيما بينهم، وكذلك ثيابهم الأنيقة والهيبة التي ترافق لقبهم، جعله يتشبّث أكثر بهذه الفرصة، وأمضى صاحبنا ما تبقى من أيام تفصله عن المباراة في الجد والمثابرة، فقد صرت تراه يحمل كتبه أينما حل وارتحل... أثناء الرعي، أثناء الاستجمام، وحتى في الجلسات العائلية، حتى صار بعض ساكنة الدوار يلقبونه بالدكتور، ليس تعظيما وتشجيعا، بل سخرية واستهزاء.

لم يكن كلام الناس، ولا حالته المادية والاجتماعية، ولا حال أبناء جيرانه الذين حصلوا على الباكالوريا ولم تنفعهم، أو بالأحرى لم ينتفعوا بها في شيء، فها هو "ابراهيم" يرعى الغنم، وذاك "أحمد" يفترش مكانا في المدينة لبيع بعض السلع الموسمية، أما "سعاد" فتنتظر عودة ابن عمها من الغربة ليتزوجها... لم يكن كل هذا ليقلل من عزيمة "عبد الرحيم" واصراره، فإن كانت هذه المباراة لمعظم الشباب في عمره تجربة ومحطة عبور، فبالنسبة اليه كانت عبارة عن استثمار... استثمار لسنوات من التعب والعمل، استثمار لليال من السهر والجوع، استثمار لغربة فوق فراش اسفنجي لا زالت ذكراه مدوّية بين أضلع "عبد الرحيم".

انطوت أيام والشاب المثابر ليس له هم سوى الحصول على الوظيفة، فبعد وفاة والده منذ ثلاث سنوات، بات هو المعيل الوحيد لأمه، اللّهم تلك البركة التي يرسلها أخوه "هشام" بداية كل شهر رمضان؛ "هشام" الذي هاجر سِرّيا الى ايطاليا هربا من غَيابات البطالة والانحراف، فرغم أن الهجرة ليست من أولويات "عبد الرحيم" في الوقت الراهن، إلا أنها واردة كخطة بديلة في حال عدم توفقه في الحصول على وظيفة. فمن ترعرع في مثل ظروفه يعلم جيدا أن الشهر والسنة... يعنيان الكثير، فليس له الوقت مثل أقرانه من اجل البحث عن عمل أو قضاء فترات التدريب بين الشركات والمؤسسات التي تستغل حاجة الشباب وقلة خبرتهم.

لم يتبقّ إلا يومان على الميعاد المنتظر؛ جهز "عبد الرحيم" حقيبة ظهر صغيرة، ثم انطلق نحو مراكش التي لم يسبق أن وطأتها قدماه. نزل من القطار واقتراب غروب الشمس، وليس له ملجأ سوى ساحة جامع الفنا. استوقف أول طاكسي رآه:

- السلام عليكم، ساحة جامع الفنا لو سمحت يا سيدي.

لم يكن يعلم "عبد الرحيم" أن عبارتَيْ "سيدي" و"البهجة"، تَفْرقان الكثير لدى بعض سائقي الطاكسي بالمدينة الحمراء. بل أكثر من هذا، طيبته... أو بالأحرى سذاجته، جعلته يحكي للسائق تفاصيل مجيئه أول مرة لهذه المدينة. كلّف هذا الحديث، الذي بدا شيّقا في البداية "لعبد الرحيم"، ثلاثون درهما، أي أن مصاريف جولته بالطاكسي كادت تقارب مصاريف رحلته من الدوار الى المدينة. أدى صاحبنا السومة الغليظة وانطلق للساحة من أجل البحث والتجوال بين الحلقات واحدة واحدة، علّه يلمح عمه "البشير". أحس "عبد الرحيم" بمهرجان من المشاعر، فقد أضحكه عرض كوميدي لإحدى الثنائيات، وأدهشه القرد الذي ينفذ أوامر صاحبه، وأخافته الأفعى التي تلتوي قرب أقدام المتفرجين، ولكن أكثر ما أثار انتباهه كان جمعا من الناس تجمهروا حول احدى الفرق المكونة من رجال يرتدون ملابس نسائية، من نقاب وحليّ وفساتين ذات أهداب ملونة، يقدمون عروضا راقصة كوميدية غنائية، تفاعل معها المتفرجون. كان لا بد لهذا المشهد الغريب أن يجذب "عبد الرحيم" الذي اتخذ مكانا له في الصف الخلفي ليتجنب حرج مد النقود بعد نهاية كل فصل من الحلقة، ووضع حقيبته جانبا ليريح كتفيه. ضحك "عبد الرحيم" حتى دمعت عيناه، وتابع العرض حتى نهايته، بل أن فضوله وشغفه جعلاه ينتظر حتى بعد نهاية العرض، من أجل معرفة من يختبأ خلف تلك الأزياء الفلكلورية. راقب بدقة ودهشة كل التفاصيل، حتى رأت عيناه ما لم يكن في الحسبان... ثم دفع بيديه من بقي من المتفرجين، واتجه مسرعا نحو أحد أعضاء الفرقة الذي كان بصدد نزع ثياب العرض:

- عمي البشير؟!!

لم يخطر على بال "عبد الرحيم" للحظة أن يجد عمه "البشير" متخفيا في زي نسائي... وتمنى لو أنه لم يجده. صُدم العم "البشير" واحمرت وجنتاه، وبدأ بالالتفات يمينا وشمالا ليتأكد ما إن كان "عبد الرحيم" لوحده، أو رفقة أحد أفراد العائلة.

بعد أن تحقق بطلنا من ملامح عمه، الذي سلم عليه ببرودة وجفاء، عاد ليحمل حقيبة ظهره التي لم تكن للأسف في انتظاره، فأخذ يلتف بين المتفرجين والمارة، ويبحث بجنون في جميع الأرجاء، حتى أمسكه عمه من كتفه بقوة كأنه يخبره أن لا جدوى من البحث. صار "عبد الرحيم" يلهث ولا يستطيع أن يتبث في مكان من هول الصدمة، وبدأ يتحسس ويتحسس كل جيوب سرواله وقميصه، ليتحرى وجود محفظة النقود، وبطاقة التعريف، واستدعاء المباراة.

حزم "البشير" أغراض "عمله" في كيس مهترئ، ووضع طاقيّته المزركشة على رأسه، ثم انطلق و"عبد الرحيم" خارج ساحة جامع الفنا. مرت دقائق والقريبان يمشيان دون تحدّث؛ لم يجرأ أحد منهما على الكلام فيما طرأ أثناء الحلقة أو تفسيره، إلى أن قرر "عبد الرحيم" كسر حاجز الصمت، وبدأ بالتحدث مع عمه وحكا له تفاصيل مجيئه إلى مراكش ومغامرة البحث عنه، وأنه لا يملك مكانا للمكوث فيه. كان "عبد الرحيم" الأكثر كلاما، بينما "البشير" كان يكتفي بطأطأة رأسه أو بأسئلة قصيرة لا معنى لها. ظل "عبد الرحيم" طوال المسير، يشتكي لعمه الظروف القاسية، ويشرح له أهمية المباراة بالنسبة إليه، ويتأسف على ضياع أغراضه المهمة، حتى دعاه هذا الأخير للمبيت عنده... وما كاد يفعل.

اختفى صخب المدينة وأضواؤها شيئا فشيئا، ودخل القريبان لأحد الأزقة الضيقة، اتجها يمينا ثم شِمالا حتى وَصَلا لباب مختفٍ في أحد الزوايا المظلمة؛ فتحه "البشير" وأعطى "لعبد الرحيم" نسخة عن المفتاح، ثم دخلا. كان البيت يحتوي على دورة مياه، ومكانا به صنبور وقنينة غاز صغيرة وبضع أوان، يُعتقَد أنه المطبخ، وغرفة ضيقة. نزع العم "البشير" حذائه ثم وضع كيسه في زاوية من الغرفة، قرب بعض الأغراض الغريبة الأخرى من ملابس وأدوات وحتى سواطير، واستلقى على الأرض وأغمض عينيه غير آبه بأحد. كانت الغرفة شبه ممتلئة برجال من مختلف الأعمار، وما إن دخلها "عبد الرحيم" حتى انهالت عليه نظرات حادة أربكته، وما كان له إلا أن يتخذ مكانا قرب عمه ليستلقي فيه دون أن يفهم شيئا. أقبل منتصف الليل وبطلنا لم يغمض له جفن، والغرفة امتلأت عن آخرها، وبدأ النفَس بالاختناق شيئا فشيئا. لم يعد "عبد الرحيم" قادرا على الترنّح في مكانه، وكلما حاول التحرك لامس رِجل أحدهم أو رأسه؛ ظل الحال هكذا حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل... ثم ازداد سوءا. بدأت المنبهات بالرنين ومع كل رنة، كان يخرج رجل أو رجلين، يرودان في مشيهما. كان يفصل بين المنبه والآخر ساعة تقريبا، وأحيانا أقل من ذلك، وفي كل مرة كان "عبد الرحيم" ينزاح بنظره جهة عمه الذي كان يغط في نومه كأنه اعتاد على الأمر.

في كل مرة كان يخرج فيها أحد النائمين بالغرفة، ويحمل معه زاده من الزاوية، كان "عبد الرحيم" يسأل نفسه، أي عمل هذا الذي يكون بعد منتصف الليل؟ وفي أي شيء تُستعمل كل تلك الأدوات الغريبة؟ وما بال السواطير؟ كل هذا جعل رجليه تتجمدان من الخوف، رغم شدة الحر بالمكان؛ أمضى الليل كله يتساءل، ويحلل الأصوات التي يسمعها آتية من وسط العتمة، ويفكر في الغار الذي كان يكتريه، وكيف كان ملكا له وحده، يرتع فيه كيف يشاء.

طلّ الصباح واستيقظ "عبد الرحيم" متأخرا بسبب الأرق الذي لازمه طوال الليل. لم يكن أحد بالغرفة إلا رجلين يتناولان أكْلا لا تظهر مكوناته، لأنه مغلف بكيس بلاستيكي. جهّز بطلنا نفسه، ثم انطلق الى المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، وأخذ يسأل كل من يجد في طريقه من المارة؛ فمنهم من يرسله لمديرية التعليم، ومنهم من يحسبه يبحث عن إحدى المدارس، ومنهم من يوجهه لدار الضرائب... كلٌّ حسب فهمه، خاصة أن هذه التسميات الإدارية جديدة، ولا يلمّ بها الكثيرون. أمضى صاحبنا ساعات وهو يبحث عن ضالته، خاصة أن طبيعة المراكشيون الاجتماعية، وفرحتهم بالغريب، تجعله يمضي دقائق في اللغط كلما سأل أحدهم عن وجهته.

وصل "عبد الرحيم" بعد الظهيرة الى مقصده، فوجد بالمركز عددا من الأفراد أغلبهم في مثل سنه، ثم اتجه نحو مكتب الإدارة الذي كان مفتوحا، من أجل الاستفسار عن بعض المعلومات. كان هناك رجل يجلس على مكتب أنيق وكبير، لقي منه "عبد الرحيم" ترحيبا وسعة صدر جعلته يطمئن لاجتياز مباراة الغد، وأزاحت الضباب عن عدة تساؤلات شغلت باله. وعند خروجه الى ساحة المركز، وقف عند مجمع من المترشحين، وبدأ الحديث معهم حول عدة مواضيع تخص المباراة والتعليم. كانوا شبابا مثقفين يطغى على كلامهم عبارات الاحترام والتقدير وتقبّل الآخر. ثم خرج بعد ذلك من المركز، بعد أن تبادل معهم أرقام الهواتف، وكله حماس وشغف ليلتحق بهذه النخبة. لم يحس "عبد الرحيم" يوما بمثل هذه المهابة والإجلال عند ولوجه باب احدى الإدارات، وما عاشه في الكلية من صدّ وتماطل، من صغير الموظفين الى كبيرهم، جعله يجزم أن كل ما هو إداري مرادف للمَشقّة والهَوان.

عند العصر، تلقى "عبد الرحيم" اتصالا من أحد الأصحاب الجدد الذين تعرف عليهم هذا اليوم، يدعوه فيه الى الإجتماع رفقة آخرين من أجل النقاش حول المباراة. رحّب صاحبنا بالفكرة، واتجه نحو المكان الذي وصفه له الشاب، فوجد الشلّة مجتمعة حول طاولة بإحدى المقاهي في وسط المدينة. بعد التحية والسلام، جلس "عبد الرحيم"، ثم قدّم كل واحد من المجموعة طلبه للنادل؛ اختلفت الطلبات حسب جنس وعادات كل فرد، إلا "عبد الرحيم" الذي امتنع عن الطلب بحجة أنه صائم.

كان الكل منهمكا في تدوين الملاحظات وطرح الأسئلة والنقاش، أما "عبد الرحيم" فقد اكتفى بالإنصات وتلقي المعلومات، خاصة أن كتبه وأغراضه قد سرقت منه.

حل المساء، وتفرق الجمع، وعاد "عبد الرحيم" الى المنزل الذي لا يعلم عنه شيئا لحد الآن. ولكن هذه الليلة، عدّل منبه هاتفه هو أيضا، ليستيقظ قبل موعد المباراة. مرت الليلة كسابقتها، و"عبد الرحيم" لا يكاد يمّيز رنة منبهه بين الرنات الأخرى التي تتشابه نوتاتها. مضى اليوم الأول، ثم الثاني، وحضر المناسبة نخبة من المثقفين وأصحاب الشهادات العليا، من مختلف الأعمار والفئات، وكان همّ "عبد الرحيم" الوحيد هو اجتياز المباراة والرجوع الى الدوار بأسرع وقت. وفي عصر اليوم الثاني، انطلق "عبد الرحيم" من المركز الى محطة القطار مباشرة، دون أن يسلم على عمه الذي كان سيفرح كثيرا بوداعه.

وصل بطلنا للدوار، دون حقيبة ولا زاد، ففرحت به أمه التي غمرته بالدعاء والقُبل وحضّرت له أشهى المأكولات والأطباق. لم يخبر "عبد الرحيم" أحدا بالأحداث الغريبة التي مر بها بالمدينة الحمراء، واكتفى بسرد الطريفة والجميلة منها ولو أنها قليلة؛ ولأنه لم يرد أن تهتز صورة عمه الشهم والمحترم، كان يمدحه ويثني على موقفه النبيل الذي أبداه عند اللقاء به.

لم تمض أياما طويلة حتى تم استدعاء "عبد الرحيم" لاجتياز المقابلة الشفهية، فأعطته أمه المسكينة بضع ورقات نقدية، كانت قد حصلت عليها بعد بيع سطل من التين البربري، وبعض العسل والسمن، من أجل التأكد من أن ابنها العزيز سيكون في أفضل حال، وهو أمام لجنة المقابلة. لحسن الحظ لم يكن هذه المرة إلا نصف يوم، قضاه "عبد الرحيم" بمراكش، ولحسن الحظ أيضا أن تعبه وشقاء والدته لم يذهبا سدا، فبعد أسابيع كانت البشرى السعيدة تجوب أرجاء الدوار، والزغاريد لم تكد تنقطع من بيت الأستاذ المستقبلي. لم يسع فرحة "عبد الرحيم" شيء، فلم يبق من تحقيق حلمه إلا شفا، وسينسى كل معاناة مر بها أو يوم عصيب أرق باله. مشقة العمل بالدوار، غربة العيش بالمدينة، تسول الأقارب والجيران، الاحتقار والمذلة، كل هذا بات من الماضي الآن.

بعد يوم غد، حضّرت "السعدية" أمّ "عبد الرحيم"، وجبة "الرفيسة" الشهية، وزينتها بالبيض وجادت في تحضير مرق الدجاج البلدي بالسمن وأوْفَت، ثم دعت كل الصديقات والقريبات، وحتى العدى. رحبت بالضيفات أشد ترحاب، ولم تبخل عليهن بطيب قَط، وفي كل مرة كانت تُدخل عليهن "عبد الرحيم" بعد إلحاحهن على مقابلة نجم الوليمة، وسط مباركتهن ودعواتهن له بالتوفيق. ومن شدة خجله كان "عبد الرحيم" لا يرفع نظره ويكتفي بالتبسم ووضع يده اليمنى على صدره كتعبير شكر.

أثناء الوليمة كانت كل واحدة من المدعوات تمدح ابنتها أمام "السعدية" وتعدد صفاتها الجميلة، وحنكتها في المطبخ والعناية بالمنزل. وكانت "السعدية" تعاين بدقة وعزة نفس كل كلمة مما يقلن.

في صباح اليوم التالي، كان "عبد الرحيم" طريح الفراش، وأمه تجول في أرجاء المنزل وبيدها مبخرة لا تكاد تظهر من كثرة الدخان. وبعد انتشار خبر مرضه في الدوار، لم تنقطع عنه الزيارات، فقد صار محبوبا عند الجيران، بعد أن أضحى الآن الموظف الوحيد بين أقرانه. عند كل زيارة كان "عبد الرحيم"، يسمع وصفات غريبة جعلته يقاوم المرض ويتظاهر بالتعافي، قبل أن تبادر أمه بتحضير إحداها؛ فجارتهم حليمة، نصحته بذبح قنفذ، وأخرى وصفت له خلطة من البصل وإكليل الجبل وروث الحمام، يضعها على رأسه، وكثيرات من وفرن عليه عناء تحضير الوصفة وقمن بإحضارها بأنفسهن، والمثير في الأمر، أن الناصحين له، كانوا يصفون مقادير دقيقة، ويشددون على ضرورة احترامها.

انقضى فصل الصيف، الذي قضاه "عبد الرحيم" بين الإدارات والمراكز ووسط الكتب والأوراق، وختمه بعِلّته التي دامت أسبوعا؛ وحلت بداية السنة التكوينية الجديدة، والتحق بطلنا بسرب مربي المستقبل، بأحد المراكز في مدينة ساحلية معروفة. وبعد التسجيل وما يصحبه من طقوس اعتيادية روتينية، كنسخ الوثائق، والتعارف بين الطلبة والبحث عن مسكن، وانتقاء شركاء المسكن... استقر "عبد الرحيم" مع اثنين آخرين من الطلبة، بمنزل متواضع جدا، بأحد الأحياء الشعبية، كان لا يكاد يختلف كثيرا عن "الغار". وبدأ مرة ثانية يلعب دور البطولة في مسلسل المعاناة، لتوفير المأكل والمشرب وما يصحبهما من حاجيات أخرى، خاصة أن المنحة تأخذ أشهرا قبل أن ينفك سراحها.

كان "عبد الرحيم"، يحضر دروسه بانتظام، ويكثف جهوده في العمل مع أصحابه بالبيت؛ أما الدروس والمطبوعات التي يتسابق زملاؤه لنسخها في المكتبات، فقد كان يختار فقط المهم منها، وحتى المُهم، كان أحيانا يقسمه إلى مُهم وأهم، فيكتفي بالأهم.

صار "عبد الرحيم" مَحطّ أنظار جميع زملائه، فشخصيته الخجولة، وتحليلاته الفلسفية للأمور، كانت تبعث على الضحك أحيانا وعلى الإستغراب أحيانا أخرى. ولكن وسط ذلك الإقصاء الذي كان يشعر به من طرف الآخرين، كانت هناك طالبة هادئة، قليلة الكلام، لا يعرف عنها "عبد الرحيم" شيئا، سوى اسمها... "نادية". كانت "نادية" عندما يبدأ الجميع بالضحك على تعليقات "عبد الرحيم"، تكتفي بارسال ابتسامة غامضة له، وأحيانا أخرى كانت تسانده في آرائه رغم قلة تدخلاتها. وبالرغم من أن هذه الأمور قد تبدو عادية، إلا أن بطلنا كان يرى أن فيها رسائل خفية من طرف الطالبة المحيّر أمرها. وفي كل مرة تلتقي فيها نظراتهما، كانت "نادية" تبتسم بثقة ثم تنزاح عن نظره؛ فيشعر بقشعريرة تبتدأ من فروة رأسه، ويبدأ قلبه بالخفقان. ولكن لغز هذه الفتاة، لم يجعله يتجرأ يوما على محادثتها.

وفي أحد أيام الجمعة، حيث كان الجو مطرا، وبعد انتهاء آخر حصة، غادرت "نادية" تاركة مظلتها الزهري لونها قرب مكان جلوسها، فانهال عليها "عبد الرحيم" انهيال الأسد على فريسته، ثم خرج يبحث عنها، ولكن الطالبة كانت قد غادرت المكان، فبقيت المظلة في عهدة "عبد الرحيم" ليومين متتاليين.

كانت المظلة تعطي حيوية للركن الذي يفترشه "عبد الرحيم" بالمنزل، وكان لونها الزهري المشع يضيء عليه عتمة المساء. كانت مظلة متميزة، وكان بها عطر غريب، منعش، طفولي وهادئ، يُشعر من يستنشقه بالنشاط والرغبة في اللعب والمرح... هكذا كان يصف "عبد الرحيم" الشيء لصاحبيه، وهو ممسكا إياه بيديه؛ وكان يخبرهما أيضا أنه منذ اللحظة التي أمسك فيها المظلة، لم يبارحه شعور غريب في معدته، هو كالألم ولكنه ليس مؤلما، ليس بالمغص ولا بالوجع، هو شعور بالإضطراب في الأمعاء، ممزوج بالتوتر وفرحة تقبض الأنفاس في آن واحد. أخبره أحد خليليه أن هذا الشعور يسمى "الفراشات في المعدة"، فراقت "لعبد الرحيم" تلك التسمية، وبدأ مع شريكيه في المسكن، بالتخطيط لكيفية إرجاع الأمانة لأهلها.

كان الصديقان "سعيد" و"جلال" يجتهدان في اعداد سيناريوهات "لعبد الرحيم"، من أجل إرجاع المظلة واستغلال الفرصة التي قد لا تتكرر، والتعرف على سر الفتاة، التي أثارت فضولهما لمدة، كما "عبد الرحيم". وكانا يرغبان بشدة في التعرف عليها عن طريق صديقهما.

في صباح يوم الاثنين، خرج "عبد الرحيم" باكرا من المنزل، مُسلّحا بنصائح وتوجيهات زميليه، ووقف في ملتقى شارعي "الورود والمعارف"، لينتظر خلف إحدى الأشجار قدوم "نادية". في كل لحظة كانت تمر، كان ذلك الاحساس في معدته يزداد أكثر فأكثر، كانت الثواني تمر كالدقائق، والدقائق كالساعات. حتى ظهرت "نادية" من بعيد... ارتجف "عبد الرحيم" عند رؤيتها، وجاءته رغبة في الهرب ونسيان القصة برمتها، لكنه فكر في أن الفرصة الذهبية قد لا تأتيه مرة أخرى، فيكون قد ضيع لحظة بات يخطط لها منذ ثلاث ليال طوال. بدأ صاحبنا المشي تأنيا تنفيذا لما جاء على لسان "سعيد"، حتى يجعل لقاءه "بنادية" كأنه صدفة غير مُعول عليها، وبالفعل كان كذلك، والتقيا في آخر زاوية من الشارع. لم تبد آثار الدهشة على "نادية" في حين صدم "عبد الرحيم" وهو المخطط للقاء:

- السلا... صباح الخير! لقد نسيت مظلتك المرة الفائتة... لقد تركتها قرب الطاولة.

أجابته "نادية" والثقة تبدو على ملامح وجهها:

- لا، هذه ليست مظلتي...!

اختلطت الكلمات على "عبد الرحيم"، وشعر بحرارة تغطي وجهه في سقيع الصباح البارد، فكل الألحان والكلمات التي نظمها له صاحباه كانت مبنية على مسألة نسيان المظلة؛ ثم ضحكت "نادية" كمن سمع دعابة طريفة، وسارا معا نحو المركز. كان موقف "عبد الرحيم" يتطلب منه ارتجالا، وسرعة بديهة، إلا أنهما لم تكونا من الصفات التي يشتهر بها. وبعد خطوات قليلة من المشي، سألته "نادية" بلكنة فرنسية لا يبدو عليها أنها مصطنعة:

- ?Sinon, les études ça va

- عفوا؟ نعم... الحمد لله...

ما كانت ثقة "نادية" بنفسها، وردة فعلها الغير منتظرة، إلا أن تجعلا عبد الرحيم يزداد توترا، وبدأ يضغط المظلة الملعونة بيديه العرقانتين. وصلا إلى المركز ثم انطلق كل منهما عند جماعته، فجاء "سعيد" و"جلال" لتقصي ما حدث من صديقهما...

كان "عبد الرحيم" يشعر بحرج شديد، فمد المظلة الى "جلال" ليتحرى صاحبتها الفعلية، وولج الصف دون أن ينظر جهة "نادية".

اعتقد أن أمر "نادية" قد انتهى، وفرصة التعرف عليها قد ضاعت منه الى الأبد، بل أنه صار يرى نفسه أضحوكة بين الآخرين. لا بد أنها تسخر من سذاجته الآن. ماذا لو أخبرت صديقاتها بالأمر؟ إلا أن الرياح جرت بما اشتهت السفينة هذه المرة. فقد صارت الفتاة منذ ذاك اليوم، تحدثه من حين الى حين، بل وأحيانا تأتي نحوه وتبادره بالكلام في فترات الاستراحة ما بين الحصص. ويوما بعد يوم، صارا يشتركان طريق الذهاب الى المركز في الصباح، وطريق العودة منه في المساء، ما عدا بعض الأيام التي تجيء فيها سيارة رباعية الدفع، ضخمة ولا يظهر سائقها أو ركابها من زجاجها المدخن، لتقل "نادية". وصار "عبد الرحيم" متأنقا في هندامه، وبات يخصص وقتا لتمشيط شعره قبل الخروج من المنزل وأضحى لا يقضي الكثير من الوقت مع صاحبيه كما كان من قبل.

فطنة وذكاء "نادية" جعلاها منذ البداية تنتبه لحالة "عبد الرحيم" المادية والاجتماعية، فكانت تحاول مساعدته ما أمكن دون أن تشعره بالنقص أو الحرج. وكانت دائما تعينه وتشجعه للمثابرة في السعي نحو تحقيق حلمه. فقد كانت تعطيه نسخا عن المطبوعات والدروس التي يتجنب نسخها لغلاء ثمنها، مدعية أنها نسختها مرتين سهوا أو نسيانا. وأحيانا كثيرة كانت تأتيه بكوبونات ملونة؛ فكان لا يكاد يمر الأسبوع دون أن يحصل فيه "عبد الرحيم" على كوبونين أو ثلاث. هذا كوبون أزرق يمنحك وجبة مجانية مع مشروب بأحد المطاعم الفخمة وسط المدينة، وهذا كوبون أصفر يعطيك تخفيضا بنسبة 60% في أحد متاجر الألبسة الجاهزة، كوبونات ولوج المكتبات الكبرى، السينما، المتاجر، وحتى أماكن الترفيه والتسلية... غيرت قطع الورق الصغيرة هاته حياة بطلنا، وجعلته يتعرف على نمط عيش لم يكن ليحلم به يوما. لم يكن يسأل عن مصدرها، وكان يكتفي فقط بشكر "نادية" وأخذها.

لم يشعر "عبد الرحيم" بهكذا سخاء وعطاء من أي شخص آخر من قبل، ما عدا أمه "السعدية". وكانت يوما بعد يوم، تكبر "نادية" في نظره، وفي نفس الوقت يحوم غموض أكبر حول قصتها.

حنان، إيثار، ذكاء وروح دعابة، كل هذا مغلف بشخصية قوية وتواضع يفوق الوصف. صفات جعلت "عبد الرحيم" يتمنى لو أنه يقضي اليوم بأكمله بالمركز قرب "نادية"، حتى صار أغلب الطلبة يعيرون اهتماما لهذا الثنائي، خاصة أن "نادية" بلباسها الذي يساير آخر صيحات الموضة، والسيارة الفخمة التي تقلها، تجعل الجميع يفكر ألف مرة قبل أن يحادثها، رغم أنها كانت لا تبخل على أحد بالمساعدة في شتى الأمور، وكانت لا تترك للكبر مجالا ليلج قلبها. وحتى بالمنزل الذي اكتراه "عبد الرحيم" لم يكن الأمر ليختلف كثيرا عن المركز، "فجلال وسعيد" يعاتبانه كل يوم على تنكره لهما منذ تعرفه على "نادية"، إلا أنهما رغم ذلك يساعدانه في خلق سيناريوهات وأفكار جديدة كلما طلب منهما ذلك. فهو يجود عليهما من حين لآخر بما تبقى له من كوبونات "نادية" القيّمة.

وفي أحد الأيام المشمسة وعند عودة "عبد الرحيم" إلى المنزل بعد انتهاء يومه الدراسي مع "نادية"، فاجأته هذه الأخيرة بخبر تحمس له كل الحماس. فقد أخبرته أن أحد المعاهد يحتاج مدرسا، ليقوم بحصص دعم لتلاميذ الصف السادس، وأنها ترى أن "عبد الرحيم" تتوفر فيه الشروط اللازمة ليتم قبوله للمنصب. ثم طلبت منه تسجيل عنوان المعهد ورقم الهاتف. أخرج "عبد الرحيم" هاتفه الفنلندي الصغير باستحياء أمام نادية التي كانت يدها الرقيقة لا تستحكم هاتفها الكوري العريض. ثم تداركت الفتاة الموقف بسرعة وأعطته بطاقة أخرجتها من حقيبتها الجلدية، بها كل المعلومات التي سيحتاجها.

ذهب الأستاذ المستقبلي مساءً لتحري الأمر وزيارة المعهد، حيث لقي ترحيبا من سيدة الاستقبال هناك، فور الادلاء باسمه، وتم الاتفاق على الأجرة التي كانت جد مناسبة، وعلى مواقيت العمل، دون التشديد على أي شروط أخرى.

ما لم يكن يعلمه "عبد الرحيم" هو أن المعهد ملك لأخت "نادية"... "نادية الكافوري"، ابنة الحاج "عبد الواحد الكافوري"، رجل له وزن في مجال المال والأعمال بالمدينة، ويمتلك مجموعة من المعاهد والمدارس الخاصة. لم يكن الكثيرون يعلمون أصل ونسب "نادية"، سوى بعض الموظفين والأساتذة الذين قضوا سنوات لا بأس بها بالعمل بالمركز، وبضع طلاب من السكان الأصليين بالمدينة...

كان "عبد الرحيم" يبدأ عمله الجديد مساءً، لثلاثة أيام في الأسبوع، وقد بيّن على اتقان وجدية كانا محط اعجاب مسيّرة المعهد، وأثارا استحسان وثناء أولياء التلاميذ. وتحسن الوضع أكثر، بعد أن أطلق سراح المنحة الدراسية التي انتظرها الجميع لأشهر. اشترى "عبد الرحيم" بذلة جديدة وصار له الآن هاتفا ذكيا، وحاسوبا يساعده في أبحاثه وعروضه التربوية. وفي كل مرة كان يعود فيها للدوّار، كان يدخل على أمه محمّلا بأكياس من الأطعمة والحلوى. وازداد مدخوله بين المنحة والراتب الذي يتلقاه بالمعهد، واتسعت بؤرة أحلامه وباتت له أهداف أكبر وأعمق. وما كان له بعد تحقيق هذه الخطوة الكبيرة إلا الاعتراف بالامتنان والتقدير للشخص الذي كان له الدخل في نصف الراتب الذي يتقاضاه الآن ...الآنسة "نادية".

بدأ مع صاحبيه التفكير في طريقة لرد ولو جزء من الجميل للفتاة السخية، فاقترح "سعيد" الذي كعادته كان يبادر بالأفكار، أن يشتري لها هدية ويدعوها لأحد المقاهي العمومية ليسلمها إياها. أعجب الجميع بالفكرة وبالفعل خصص "عبد الرحيم" أحد الأيام التي لم يكن يعمل فيها بالمعهد، لشراء هدية تناسب "نادية"، وبعد بحث طويل استقر قراره على قنينة عطر فرنسي من النوع الجيد، رغم أنه مقلد، وأوصى البائع بلفها داخل ورق الهدايا ووضع بطاقة وزينة عليها، كما أكد عليه "سعيد" بالضبط. وفي اليوم التالي طلب "عبد الرحيم" من "نادية" أن يلتقي بها يوم الأحد، فوافقت وكان لها حق اختيار المكان والزمان، واللذان اختارتهما بحكمة كعادتها. اختارت الآنسة أحد المقاهي الهادئة والغير مكلفة في نفس الوقت، مراعاة "لعبد الرحيم"، وجعلت اللقاء على الساعة الرابعة بعد الزوال الى حين عودتها من حصة التمارين بالنادي الرياضي.

في صباح يوم الأحد، استيقظ بطلنا، وبعد تناول الفطور رتب أمتعته هو وصاحبيه وقاموا بتحضير ما يلزم من وجبات خفيفة ومشروبات من أجل قضاء الصباح بشاطئ المدينة، فمناسبة اليوم كبيرة وتستحق الاستمتاع والاحتفال مع الاصحاب.

لم يزر "عبد الرحيم" شاطئ البحر منذ أكثر من عشر سنوات، فآخر مرة كانت عندما نظمت إحدى الجمعيات رحلة لمدينة سياحية لفائدة أطفال دوّاره، وكان من بين المستفيدين آنذاك. ففصل الصيف كان يقضيه بأكمله في الرعي، والفصول الثلاثة الباقية في توفير لقمة العيش ومصاريف دراسته.

ما إن وصل الرفاق، وقاموا بوضع أمتعتهم فوق الرمال السمراء، حتى بادر "عبد الرحيم" بأخذ صورة للذكرى، كان يتوسط فيها صديقيه ويرتدي سروالا قصيرا برتقالي لونه، ونظارات شمسية، ثم شاركها على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي، فقد بات له الآن حسابا على "الفايسبوك"، وصبيب انترنت بالهاتف يستخدمه وقت يشاء.

قبل موعد اللقاء المنتظر بربع ساعة كانت "نادية" قد حجزت طاولة بالمقهى، وجلست تنتظر "عبد الرحيم". مر الوقت ببطء شديد وتجاوز الموعد بعشر دقائق، ولاحظت "نادية" صورة "عبد الرحيم" التي قام بمشاركتها صباحا، فازدادت حيرتها وتساءلت عن سبب تأخره. شعرت الفتاة بالملل بعد مرور نصف ساعة ولم يظهر للشاب المنتظر أثر، ثم وضعت هاتفها جانبا وبدأت تداعب نظرها بفراشات الربيع التي كانت تحوم حول أزهار حديقة المقهى. الفراشة... ذلك المخلوق الجميل ذو الجناحين الملونين اللذين يجسدان عظمة الخالق في ملكوته، إلا وأنها رغم تميّزهها ورقتها تبقى محسوبة على فصيلة الحشرات، وانجذابها نحو النور واللمعان الآتي من المجهول، يجعلها في أغلب الأحيان تحترق حول أشعة النار، فتضع حدا لمسيرتها في الحياة...

في نفس الوقت بشاطئ البحر كان الناس يتجمهرون على شكل حلقة وبعض رجال الأمن والإنقاذ في حالة استنفار. يبدو كأن أحد رواد الشاطئ قد غرق أثناء السباحة... إنه "عبد الرحيم"!! لقد قضي أثناء سباحته في البحر، وقد تم انتشال جثته لكن بعد فوات الأوان.

كانت ابتسامة باردة تشرق على محياه الذي صار أزرقا، كأنه يرقد في سلام، بعد أن عاش كل ما كان يحلم به منذ سنوات طوال... عاشه في أيام قليلة ثم غادر...

صدم المركز من هول الخبر الذي نزل كالصاعقة على الجميع، خاصة "نادية"، التي انقطعت عن التكوين لأسبوعين. وزار جل الطلبة بيت الفقيد بالدوار من أجل مواساة أمه المسكينة وتعزيتها، وكانت "نادية" صاحبة الفكرة، وتكلفت بجمع مساهمات الزملاء، وحتى الأساتذة من أجل التأبين، وكانت مساهماتها هي الأكبر.

- بعد سنة توفي "هشام" أخ "عبد الرحيم" في ظروف غامضة ببلاد الغربة.

- لم تلتحق "نادية" بمقر تعيينها، وأسست معهدا لتصميم وعرض الأزياء بتمويل من والدها.

- تزوج "جلال" بصاحبة المظلة الزهرية.

- ومازالت التعليقات تنهال على صورة "عبد الرحيم" بالفايسبوك إلى يومنا هذا: "صورة جميلة، بالصحة التبحيرة!"

انتهى بحمد الله.


bottom of page